الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***
وهو المشتمل على المواعظ والإرشادات مطلقاً وهو مائة فصل أول ليس له مبدأ، آخر جل عن منتهى، ظاهر بالدليل، باطن بالحجاب، يثبته العقل ولا يدركه الحس، كل مخلوق محصور، بحد مأسور في سور قطر، والخالق بائن مباين يعرف بعدم مألوف التعريف، ارتفعت لعدم للشبه الشبه، إنما يقع الإشكال في وصف من له أشكال، وإنما تضرب الأمثال لمن له أمثال، فأما من لم يزل ولا يزال فما للحس معه مجال، عظمته عظمت عن نيل كف الخيال. كيف يقال له كيف، والكيف في حقه محال، أنى تتخايله الأوهام وهي صنعه، كيف تحده العقول وهي فعله، كيف تحويه الأماكن وهي وضعه، انقطع سير الفكر، وقف سلوك الذهن، بطلت إشارة الوهم، عجز لطف الوصف، عشيت عين العقل، خرس لسان الحس، لا طور للقدم في طور القدم، عز المرقى فيأس المرتقى، بحر لا يتمكن منه غايص، ليل لا يبين للعين فيه كوكب: مرام شط مرمى العقل فيه *** فدون مداه بـيد لا تـبـيد جادة التسليم سليمة، وادي النقل بلا نقع، انزل عن علو غلو التشبيه، ولا تعل قلل أباطيل التعطيل، فالوادي بين جبلين، المشبه متلوث بفرث التجسيم، والمعطل نجس بدم الجحود، ونصيب المحق لبن خالص هو التنزيه، تخمّر في نفوس الكفار حب الأصنام، فجاء محمد فمحا ذلك بالتوحيد، وتخمر في قلوب المشبهة حب صورة وشكل، حييت فمحوتها بالتنزيه "والعلماء ورثة الأنبياء" ما عرفه من كيفه، ولا وحده من مثله، ولا عبده من شبهه، المشبه أعشى، والمعطل أعمى. فما ينزه عنه فم، فيما يجب نفيه بثم جل وجوب وجوده عن رجم لعل، سبق الزمان فلا يقال كان إذ، تمجد في وحدانيته عن زحام مع، تفرد بالإنشاء فلا يستفهم عن الصانع بمن، أبرز عرايس المخلوقات من كنّ كن، بث الحلم فلم يعارض بلم، تعالى عن بعضية من، وتقدس عن ظرفية في، وتنزه عن شبه كان، وتعظم عن نقص لو أن، وعز عن عيب إلا أن، وسما كماله عن تدارك لكن. إن وقف ذهن بوصفه صاح العز جز، إن سار فكر نحوه قالت الهيبة عد، إن قعد اللسان عن ذكره قال القلب قم، إن تجبر متكبر قال القهر شم، إن سأل محتاج قال الإنعام رش، إن تعرض فقير قال الوفر فر، إن سكت مذنب حيا قال الحلم قل، إن بعد ذو خطاء نادى اللطف إبْ، نثر عجايب النعم وقال للكل خذ. من بيان عظمته "رفيع الدرجات" من أثر قسره "تُسبِّح له السماوات" توقيع أمره "يأمر بالعدل" واقع زجره "ينهى عن الفحشاء" ينادي على باب عزته "لا يُسأل" يصاح على محجة حجته "لمن الأرض ومن فيها" ينذر جاسوس علمه "ما يكون من نجوى ثلاثة" يقول جهبذ طوله "وإن تعدُّوا نعمة الله" يترنم منشد فضله "لا تقنطوا". سبحان من أقام من كل موجود دليلاً على عزته، ونصب علم الهدى على باب حجته، الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، إن رفعت بصر الفكر ترى دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته، والكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، فمنها رجوم للشياطين ترميهم فترميهم عن حمى حمايته، ومنها سطور في المهامه يقرؤها المسافر في سفر سفرته، وإن خفضت البصر رأيت الأرض ممسكة بحكمة حكمته، كل قطر منها محروس بأطواده عن حركته، فإذا ضجت عطائها ثار السحاب من بركة بركته، ونفخ في صور الرعد لإحياء صور النبات من حفرته، فيبدو نور النور يهتز طرباً بخزامى رحمته، فإذا استوى على سوقه. زادت في سوقه نعامى نعمته، ويفتق يد الإيجاد بأنامل القدرة أكمام النبات عن صنعة صبغته، فيرفل في حلى حلل الحال الحالية إلى معبر عبرته، وتصدح الورق على الورق كل بتبليغ لغته، والأشجار معتنقة ومفترقة على مقدار إرادته، صنوان وغير صنوان، هذا بعض صنعته "ويُسبِّح الرعد بحمد والملائكة من خيفته". نظر بعين الاختيار إلى آدم فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه شيث فأقامه في منزلته، وإلى إدريس فاحتال بإلهامه على جنته، وإلى نوح فنجا من الغرق بسفينته، وإلى هود فعاد على عاد شؤم مخالفته، وإلى صالح فتمخضت صخرة بناقته، وإلى إبراهيم فتبختر في حلة خلته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وإلى إسحق فافتكه بالفداء من ضجعته، وإلى لوط فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يعقوب فرد حبيبه مع حبيبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همته، وإلى موسى فخطر في ثوب مكالمته، وإلى إلياس فاليأس للناس من حالته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان فراحت الريح من في مملكته، وإلى أيوب فيا طوبى لركضته، وإلى يونس فسمع نداه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، وإلى يحيى فتلمح حصير الحصور على سدة سيادته، وإلى عيسى فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد، فخصه ليلة المعراج رؤيته. وأعرض عن إبليس فخزي ببعده ولعنته، وعن قابيل فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود فقال أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون فادعى الربوبية على جرأته، وعن هامان فأين رأيه؟ يوم اليم في وزارته، وعن قارون فخرج على قومه في زينته، وعن بلعام فهلك بل عام في بحر شقوته، وعن برصيصا فلم تنفعه سابق عبادته، وعن أبي جهل فشقي مع سعادة أمه وابنه وابنته، هكذا جرى تقديره من يوم "لا أبالي" في قسمته "ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته". ودين الحق" نذكر فيه فضل نبينا صلى الله عليه وسلم لم يزل ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم منشوراً وهو في طي العدم، توسل به آدم، وأخذ له ميثاق الأنبياء على تصديقه، في بعض درسه علم إدريس، في ضمن وجده حزن يعقوب، في سر جده صبر أيوب، في طي خوفه بكاء داود، بعض غنى نفسه يزيد على ملك سليمان، غير بعيد خل خلاله خلة الخليل، ونال تكليم موسى، واسترجع له النظر عند قاب قوسين، فهو جملة الجمال، وكل الكمال، وواسطة العقد، وزينة الدهر، يزيد على الأنبياء زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، فهو أصدرهم وبدرهم، وعليه يدور أمرهم، قطب فلكهم، عين كتيبتهم، واسطة قلادتهم، نقش فصهم، بيت قصيدتهم، حاتمهم، خاتمهم: شمس ضحاها هلال ليلتها *** در تقاصيرها زبرجدها لما رأى تخليط قريش في دعوى الشرك فر في بادية الهرب فتحرى غار حراء في الفرار للفراغ، فراغ إليه فجاء مزاحم "اقرأ" يا راهب الصمت تكلم، قال لسان العجز البشري: لست بقارئ، فحم لما حم فزمزم بلفظ "زمِّلوني" فصاح الملك "يا أيها المزَّمِّل" يا أطيب ثمار كن، يا محمولاً عليه. ثقل قل "قم". لما بعث الملك الملك إلى نبينا برسالة "اقرأ" فتر الوحي بعدها مدة، مات قوس الشوق فرمت الكبداء الكبد، بكبد أعجز المكابدة، فكان يهم لما يلقي بإلقاء نفسه من ذروة الجبل، فإذا بدا له جبريل بدله، ثم رميت الشياطين عند مبعثه بأسهم الشهب، عن قوس "ويُقذفون من كل جانب" فمروا إلى المغارب، ومشوا إلى المشارق، ليقطعوا سبسب السبب، فجرت ريح التوفيق، بمراكب بعضهم إلى تهامة، فصادفوه في الصلاة، فصادفوه قلوب القوم، فصاحت ألسنة الوجد "إنّا سمعنا قرآناً عجبا". تحركت لتعظيمه السواكن، فحن إليه الجذع، وسبح الحصى، وتزلزل الجبل وتكلم الذيب، كل كنى عن شوقه بلغاته. فمرضت قريش بداء الحسد فقالوا مجنون، يا محمد، هذا نقش يرقانهم لا لون وجهك. لما أخذ في سفر "أسرى" فنقل إلى المسجد الأقصى، برز إليه عباد الأنبياء من صوامعهم، فاقتدوا بصلاة راهب الوجود، ثم خرج فعرج فعرضت عليه الجنة والنار، حتى عرف الطبيب عقاقير الأدوية، قبل تركيب الأدوية، يل لها من ليلة، قل غرب حد سيف "أتجعل فيها" ظنت الملائكة أن الآيات تختص بالسماء، فإذا آية الأرض قد علت. أقبلت رؤساء الأملاك، تحيي الرئيس الأكبر، فرأى في القوم ملكاً نصفه من ثلج ونصفه من نار، فعجب لاجتماع الضدين، فقيل لا تعجب فعندك أعجب منه، لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا، كان جبريل دليل البادية فلما وصل إلى مفازة ليس فيها علم يعرفه، علم ابن أجود أن الصدق أجود، فقال: ما أنت وربك، فإذا قامت القيامة، فموسى صاحبه، وعيسى حاجبه، والخليل في عسكره، وآدم ينادي بلسان حاله يا ولد صورتي، ويا والد معناي، ما صعد من بحور الأكوان أشرف من درة نبينا صلى الله عليه وسلم، طرة غرته أحسن من جمال يوسف، لعاب فيه أشفى من البرء، شمس شرعه لا يدركها كسوف ناسخ، قمر دينه لا يدخل في محاق. كل الأنبياء في القيامة تقول نفسي نفسي، وهو يقول أمتي أمتي، فإذا سجد، قيل ارفع رأسك، وقل تُسمَع، كم بين ذل محب، وإدلال محبوب، الحيوانات تذل في طلب القوت، والفيلة تتملق حتى تأكل، يا من هو في جملة جنود هذا الشجاع، أيحسن بك؟ كل يوم هزيمة. لولا جد أصحابه في جهادهم وشجاعتهم في صفوف قتالهم، لافتضح المتأخرون، فالحمد لله على اليزل، كانوا بالليل رهباناً وبالنهار فرساناً، قطع الرسول طمع من طمع في لحاقهم بحسام "ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وكيف تنال مرتبة السابق بشيء وقر في صدره؟ أو منقبة المهيب والعدو يفرق من ظله؟ أو مقام الوقور فالملائكة تستحي منه؟ أو فضيلة مزاحم النفس في منزلة كهارون من موسى: يأس والله الكهول من مقارنة سيدَيْ كهول أهل الجنة، كما لم تطمع الشباب في مزاحمة سيدَيْ شباب أهل الجنة، متى التهبت في صحابة الأنبياء؟ عزيمة كحمرة جمرة حمزة، أو علا على العلاء علي، كعلاء علي، لقد فاز بلقب الصدق طلحة الجود، كما سعد بالفضل وحوارى الزبير، وسما بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه ابن عوف، كما قرت بلفظ فداك أبي وأمي عين سعد، ونجا بالشهادة له بالجنة سعيد، كما عز ابن الجراح بلقب الأمين، ولم يذكر باسمه بالقرآن غير زيد، وأين في الموالي مثل سالم وسلمان؟ ومن في الزهاد كمصعب وابن مظعون، وإنه لمسعود عبد الله ابن مسعود، وطوبى ثم طوبى لخباب وصهيب، ويا شرف المؤمنين بصوت بلال، ويكفي فخراً: "كوني فخراً لعمار" وأي بيت يشبه بيت أبي أيوب؟ ومن زين القراء إلا أبي بن كعب؟ ومن في النقباء كابن زرارة وابن الربيع؟ وأنى في الفقهاء مثل معاذ؟ ومن له زهد كزهد أبي ذر؟ والفخر لبني هاشم بالعباس، وكفى للبصراء قائداً ابن أم مكتوم، وإنه لقدوة المؤثرين أبو الدحداح، ومن في قوام الليل مثل تميم؟ ومن صبر على القتل صبر خبيب؟ كلهم أخيار، وجميعهم أبرار، ولا مثل صاحب الغار، وأين نظير فُتّاح الأمصار؟ ومن يشبه قتيل الدار؟ ولقد افتقروا إلى المجاهد بذي الفقار، بحب هؤلاء ترجى الجنة وتتقى النار. إن الله تعالى لما حلى محمداً حلية التنزه، خلع عليه خلعةً هي الإسلام، وأعطاه منشوراً هو القرآن، ولواءً هو النصر، فأبو بكر صدَّق النبوة، وعمر أظهر الرسالة وعثمان جمع المنشور، وعلي حمل السيف لما جلا الرسول عروس الإسلام، لم يكن بد من نثار، نثر عمر نصف ماله، فرمى أبو بكر بالكل، فقام عثمان يجهز جيش العسرة، بوليمة العرس، فعلم على حال الغيرة، فبت طلاق الضرة، ثم رأى بعض جهاز الدنيا المطلقة عنده. وهو الخاتم. فسلم وما سلم: خطوا وأقلامهم خطية سـلـب *** فهم على الخيل أميون كتـاب إن أحسنوا كلما واخلو لقوا ذمماً *** واخشوشنوا شيماً فالقوم أعراب لما تكامل بناء البيت، أرسل الله تعالى إلى خليله، أدِّ رسالة "وأذِّن" فَعَلا على أبي قبيس، ونادى في جميع الوجوه: إن ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجوه، فأجاب من جرى القدر بحجه: لبيك اللهم لبيك. فكان ذلك اليوم. أخاً ليوم "ألست بربكم": لما رأيت منـاديهـم ألـم بـنـا *** شددت ميزر إحرامي ولـبـيتُ وقلتُ للنفس جدي الآن واجتهـدي *** وساعديني كهذا مـا تـمـنـيتُ لو جئتكم زائراً أسعى على بصري *** لم أقض حقاً وأي الـحـق أديتُ قطع القوم بيد السفر "بشقِّ الأنفس" فوافقهم الركاب "وعلى كلِّ ضامرٍ": دعِ المطايا تنسم الجنوبـا*** إن لها لنبـأ عـجـيبـا حنينها وما اشتكت لوبـا*** يشهدان قد فارقت حبيبا ما حملت إلا فتى كئيبـا*** يسر مما أعلنت نصيبـا لو غادر الشوق لنا قلوبـا*** أذن لأثرنا بهن النـيبـا .......................... *** إن الغريب يسعد الغريبا واعجبا من حنين النوق، كأنها قد علمت وجد الركاب، تارة تجد في السير، وتارة تتوقف، وتارة تذل وتطأطئ العناق، وتارة تمرح، كأنها قد استعارت أحوال العارفين: اذكراها في سراها ما عراهـا *** فغدت تنفخ شوقاً في براهـا تقطع البر وتنسى ما جـنـى *** سيرُها والسيرُ أمرٌ قد براهـا كلما ظنت مني قـد قـربـت *** وتدانت دارها طار كـراهـا أسعداها يا خلـيلـي عـلـى *** ما دعاها في الهوى أو فدعاها ذكرا ما زال من عهد الصبـى *** خلياها والصبا فهو رضاهـا غنها يا أيهـا الـحـادي لـهـا *** بالحمى أو بالنقا وانظر سراهـا نح عنها السوط يكفي شـوقـهـا *** قد رأت في نفسها ما قد كفاهـا باعها الوجد بكثـبـان الـنـقـي *** عجباً إذ باعها كيف اشتـراهـا أتراها علمـتْ مـن حـمـلـتْ *** ليتها قد عرفت من في ذراهـا أنتَ إن لاحت لك العـلام قـف *** فهي المقصود لا شيء سواهـا قف على الوادي وسل عن كبدي *** كبدي واكبـدي مـاذا دهـاهـا يا رفـيقـي اهـديانـي دارهـم *** ودعاني ودعـانـي وثـراهـا أنا مقـتـول بـسـهـم غـرب *** قوسه خيف مني أو ما زماهـا حُرِّم الصيد علـى مـن حـجـه *** فانظرا إلى مهجتي من قد رماها اكتبا في لوح قبري عشـتـمـا *** مهجة ماتت وما هالت منـاهـا أمر المحرمون بالتعري. ليدخلوا بزي الفقراء، فيبين أثر "وما أموالكُم": من أعلم السايق العنيف بهم*** بأن روحي تساق مع أبله وأن دمعي يروي ركايبهـم*** لولا دم في انسكاب منهمله تالله لقد جمعوا الخير، ليلة جمع، ونالوا المنى إذ دخلوا منى: لله در منى وما جـمـعـت*** وبكا الأحبة ليلة الـنـفـرِ ثم اغتدوا فرقاً هنا وهـنـا*** يتلاحظون بأعين الـذكـرِ ما للمضاجع لا تلايمـنـي*** وكأن قلبي ليس في صدري حج جعفر الصادق فأراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله؟ فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب. وقف مطرف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أني فيهم. وقام الفضيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب، قال: واسؤتاه منك وإن عفوت. وقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: ثم وحشة. قيل: فهذا يوم العفو عن الذنوب؟ فبسط يده فوقع ميتاً.
وانزل الوادي بـأيمـنـه*** إنـه بـالـدمـع مـلآن وارم بالطرف العقيق فلي*** ثم أوطـار وأوطـــان وانشد القلب المشوق عسى*** يرجع المفقود نـشـدان وابك عني ما استطعت إذا*** ما بدا للطرف نعـمـان واقره عني السلام فكـأن*** قلـبـي فـيه سـكـان لا تزدني يا عذول جـوى*** أنا بالأشـواق سـكـران حج الشبلي. فلما رأى مكة قال: أبطحاء مكة هذا الذي *** أراه عياناً وهذا أنـا ثم غشي عليه فلما أفاق قال: هذه دارهم وأنت محـب *** ما بقاء الدموع في الإماق حج قوم من العباد فيهم عابدة فجعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فيقولون ألا ترينه: إذا دنت المنازل زاد شوقي *** ولا سيما إذا دنت الخـيام فلما لاح البيت، قالوا هذا بيت ربك، فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي. بيت ربي. حتى وضعت جبهتها على البيت، فما رفعت إلا ميتة: هاتيك دارهـم وهـذا مـاؤهـم *** فاحبس ورد وشرقت إن لم تسقني أودعت إقرارك يوم السبت الحجر الأسود، وأمرتُك بالحج لتستحي بالتذكير من نقض العهد، الحجر صندوق أسرار المواثيق، مستمل لما أملى المعاهد، مشتمل على حفظ العهد، فاستلم المستملي المشتمل، ليعلم أن إقرارك لا عن إكراه، لا تنس عهدي فإني لا أنساك: فلا تحسبوا أنـي نـسـيت ودادكـمُ*** فإني وإن طال المدى لست أنساكـمُ حفظنا وضـيعـتـم وداداً وحـرمةً*** فلا كان من في هجرنا اليوم أغراكمُ كم شخص أشخصه الوجد في الحج، فكاد نشابة المواثيق قبل تقبيله تقتله، فلما قضى الناسك المناسك، ورجع باقي سهم الشوق إليه في قلب منى المنى: يكاد يمسكه عرفان راحـتـه *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم أخواني: ذكر تلك الأماكن يعمل في القلب قبل السمع، كأنها قد خلقت من طين الطبع، لسلع سلع لسع، ليس لعسل لعس: للمهيار: هل مجابٌ يدعو مبدِّد أوطا *** ري بجمع يرد أيام جمعِ أو أمين القوى أحمِّلـه هـمـا *** ثقـيلاً يحـطُّـه دون سـلـعِ فافرُجا لي عن نفحةٍ من صبـاه *** طال مدى لها الصليف ورفعي إن ذاك النسيم يجري على أرضٍ *** ثراها في الريح رقيةُ لَـسْـعِ كم زفير علمت منـه حـمـام *** الدوح ما كان من حنين وسجعِ وآخجل المتخلف، وآسف المسوف، أين حسرات البعد؟ أين لذعات الوجد؟. للخفاجي: أتظن الورق في الأيك تغـنِّـي*** إنها تضمر حزناً مثل حـزنـي لا أراك الله نـجـداً بـعـدهـا*** أيها الحادي بنا إن لم تجـبـنـي هل تباريني إلى بـث الـجـوى*** في ديار الحي نشوي ذات غصن هب لها السبق ولـكـن زادنـا*** أننا نبكي علـيهـا وتـغـنـي يا زمان الخيف هل مـن عـودة*** يسمح الدهر بها من بعد ضـنِّ أرضينـا بـثـنـيات الـلـوى*** عن زرود يا لها صفقة غـبـنِ سل أراك الجزع هل مرت بـه*** مزنة روت ثراه غير جفـنـي وأحاديث الغضا هل عـلـمـت*** أنها تملك قلبـي قـبـل أذنـي يا عجباً لمن يقطع المفاوز ليرى البيت فيشاهد آثار الأنبياء، كيف لا يقطع نفسه عن هواه؟ ليصل إلى قلبه فيرى آثار "ويسعني". لمحمد بن أحمد الشيرازي: إليك قصـدي لا لـلـبـيت والأثـر*** ولا طوافي بـأركـان ولا حـجـرِ صفاء دمعي الصفالي حين أعـبـره*** وزمزمي دمعة تجري من البصـرِ عرفانكم عرفاتي إذ مـنـي مـنـن*** وموقفي وقفة في الخوف والحـذرِ وفيك سعيي وتعميري ومـزدلـفـي*** والهدى جسمي الذي يغني عن الجزرِ ومسجد الخيف خوفي من تباعـدكـم*** ومشعري ومقامي دونكم خـطـري زادي رجائي لكم والشوق راحلـتـي*** والماء من عبراتي والهوى سفـري إخواني: قد نمى إليكم أمر من نما، وسامي وصال الوسام وسما، وافتخر بالنسب والنشب وانتمى، كيف بارزه من أبرزه، عن الحمى، فبات بعد الري يشكو الظما، وقد رأيتم ما جرى، فانتظروا مثل ما. لابن المعتز: يا نفس ويحك طال ما*** أبصرت موعظة وما نفعتك فاخشي وانتهى*** وعليك بالتقوى كمـا فعل الأناس الصالحون*** وبادري فلـربـمـا سلم المبادر واحـذري*** يا نفس من سوف فما خدع الشقي بمثلـهـا*** إياك منهـا كـلـمـا ناجت مكايدها ضمـير*** ك إنما هـي إنـمـا خطرت وكم قتـلـت*** وأهلكت النفوس وقلما تغنـي أمـانـيهـا إذا*** حضر الردى فكأنمـا لم يحيي مـن لاقـى*** منيته فيا عجبـا أمـا في ذاك معتـبـر ولا*** شاف يبصر من عمى يا ذا المنى يا ذا المنى*** عش ما بدا لك ثم مـا يا سكران الهوى. أما آن الصحو؟ يا ساطراً قبح الخلاف. أما حان المحو؟ أين الراحلون؟ كانوا بالأمس، صحت حجة الموت فبطلت حجة النفس، واعتقلهم حاكم البلى على دين الرمس، وكف أكف الحس، بعد تصرف آلة الخمس، واستوعر عليهم الحصر. واستطال الحبس وأصبحت منازلهم "كأنْ لم تغنَ بالأمس". يا قليل اللبث، خل العبث، كم حدث جدث في حدث؟ يا موقناً بالرحيل وما اكترث، اقبل نصحي. ورم الشعث. إذا نلت من دنياك خيراً ففز بـه*** فإن لجمع الدهر من صرفه شتا فكم من مشت لم يصيف بأهلـه*** وآخر لم يدركه صيف إذا شتى انتهب نثار الخير. في مكان الإمكان، قبل أن تدخل في خبر كان، قبل معاينة الهول المخوف الفظيع، وتلهف المجدب على زمان الربيع، إنما أهل هذه الدار سفر، لا يحلون عقد الركاب إلا في غيرها، فاعجبوا لدار قد أدبرت والنفوس عليها والهة، ولأخرى قد أقبلت والقلوب عنها غافلة. والله لو كانت الدنيا بأجمعـهـا *** تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل لها *** فكيف وهي متاع يضمحل غدا يا مكرماً بحلية الإيمان. بعد حلة الإيجاد، وهو يخلقها في مخالفة الخالق، كم من نعمة نعمة؟ في ترف ترف، وما يخف عليك ذكر شكر. يا عبد السوء ما تساوي قدر قدرتك، لا كانت دابة لا تعمل بعلفها، إلى متى يخدعك المنى؟ ويغرك الأمل؟ ويحك. افتح عينيك متى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي، فاعلم أنه قد مسخ. ما زالت الدنيا مرة في العبرة، ولكن قد مرض ذوقك، لسان قلبك في عقلة غفلة، وسَمْعُ فهمك مسدود عن الفطنة بقطنة. وبصر بصيرتك محجوب بعشا عمى، ومزاج تقواك منحرف عن الصحة، وأما نبض الهوى فشديد الخفقان، سارت أخلاط الأمل في أعضاء الكسل فتثبطت عن البدار، وقد صارت المفاصل في منافذ الفهوم. سدداً، وما يسهل شرب مسهل، ويحك اجتنب حلواء الشره فإنها سبب حمى الروح، خل خل البخل فإنه يؤذي عصب المرؤة، إن عولجت أمراضك فعولجت، وإلا ملكت فأهلكت، لو احتميت عن أخلاط الخطايا لم تحتج إلى طبيب، من ركب ظهر التفريط نزل به دار الندامة ألم تسمع أن داود كان قد أعطي نعمة نغمة. كان يقف لها الماء فلا يسير والطير وقوف الأسير، فامتدت يد الغفلة، فقدت قميص العصمة، فأثر زلله حتى في التلاوة، أعرض المعمار عن المراعاة، فتشعب منزل الصفا، وانقطعت جامكية العسكر، فتفرقت جنود "أوِّبي" كان يؤتى بالإناء ناقصاً، فيتمه بالدموع. للمهيار: ما لي شرقتُ بماء ذي الأثل*** هل كدَّر الوُرَّادُ من قبلي؟ أما بان سكان فاملـح لـي*** ما كنت قبل البين أستحلي؟ ما ابيض لي في الدار بعدهمُ*** يومٌ وهل دارٌ بـلا أهـلِ؟ رحلوا بأيامي الرقاق علـى*** آثارهم وبعيشي السـهـلِ كان عيش عيشه خضراً، فأحالت الحال سنة الهجر، فكأن أيام الوصال كانت سنة، وكاد يقطع باليأس، لولا التقاء الخضر باليأس. أرقي قد رق لي من أرقي *** ورثى لي قلقي من قلقي وبكائي من بكائي قد بكـا *** وتشكت حرقي من حرقي كان داود إذا أراد النياحة، نادى مناديه في أندية المحزونين فيجتمعون في مآتم الندوب، فتزداد الحرق بالتعاون. للعباس بن الأحنف: يا بعيد الدار عن وطنه*** مفرداً يبكي على شجنهْ كلما جدَّ النحـيب بـه*** زادت الأسقام في بدنهْ ولقد زاد الفؤاد شجـىً*** هاتفٌ يبكي على فننهْ شاقه ما شاقني فبكـى*** كلنا يبكي على سكنـهْ يا مذنبين مصيبتنا في التفريط واحدة وكل غريب للغريب نسيب يا مترافقين: في سفر الطرد. انزلوا للنياحة في ساحة، اندبوا طيب أوطان الوصل، واستغيثوا من هجير الهجر، لعل الغم ينقلب غمامة، تظل من لفخ الكرب. للمصنف: أين فـؤادي إذا بـه الـبـعــد*** وأين قلبي أمـا صـحـا بـعـد حدا بذكـر الـعـقـيق سـايقـه*** فطار شوقـاً بـلـبـه الـوجـد جسم ببغداد لـيس تـصـحـبـه*** روح وروح يضمـهـا نـجـد يا لفؤاد ما يستريح مـن الـكـر*** ب لـه كـل لـحـظة وقــد آه لعيش قد كـنـت أصـحـبـه*** لو كـان يومـاً لـفـــايت رد أروح في حبكـم ووا قـلـقـي*** وهكـذا أشـتـكـي إذا أغـدوا كل زماني جزر عن الوصل أشكو*** ه فـهـلا تـنـاوب الـمـــد يا سعد زدني جوى بـذكـرهـم*** يا سعد قل لي فـديت يا سـعـد بلغهـم مـا أجـن مـن حـرق*** وقل وحدث بـبـعـض مـا يدو وقل رأيت الأسـير فـي قـلـق*** وقال لي حـرمة ولـي عـهـد ثم فسلـهـم والأمـر أمـرهـم*** يقول مولى ويصمـت الـعـبـد
|